بحث

خيرية فتحي عبد الجليل

بين ورقتين تنهمر الكلمات بلا فواصل تتساقط دون انتظام .. تتلعثم على الهوامش وتعربد في الحواشي متعثرة بالأشواق والحنين . كل شيء عدا حضورك باطل .

خلف الصفوف

عسكرنا في صحراء مترامية الأطراف، قاحلة، كانت جميع الأيام في وقت النهار حارة و الشمس عمودية وكأنها فوق رؤوسنا تماماً  ولا يمكن وصف الحرب هنا، نحارب ونحن صائمين، لا مجال للكتابة، لا مجال حتى للخربشة، الرماية تأتي من الضفة الأخرى عنيفة جداً وحليفنا يرد بصورة أكثر عنفاً وضراوة، هنا على هذه الأرض الصحراوية تساوتْ لدّي الأشياء، كل الأشياء والمعاني والمفاهيم،  كل القيم انهارت، ما تعلمته هنا يفوق بكثير ما تبثه كل قنوات المعارف والعلوم والأفكار، الحرب ما عادت هي الحرب لم تعد مطلقاً تلك التي تعلمت أبجديتها من أجدادي الذين قاتلوا مع عمر المختار، أو التي كنت أشاهدها على شاشات التلفاز، لم تكن حرب المسلمين ضد كفار قريش في مسلسلات الفتوحات الإسلامية، أو حرب أبطال الحجارة ضد المحتل الإسرائيلي، لقد كسرتْ هذه الحرب كل مقاييس الأخلاق الإنسانية التي عرفناها، عُزِلنا عن المعركة، لم يكن الخصم سوى إحداثيات يرصدها الناتو على شبكته ونحن نسرع لالتقاط ما يتناثر من الجثث المتطايرة ومن الموت الجماعي ونجمع ونتشاجر على الغنائم واكتشفنا أننا لم نكن نقاتل بالمعنى الحقيقي للقتال بل نحتسي الشاي ونأكل ما تبعثه الأمهات من وجبات دسمة إلينا في المعارك ونسارع إثر كل ضربة عن بعد آلاف الأميال، ننهب ونسرق، نخون ونتخاصم بينما التقنية الرقمية تقاتل بدلاً عنا، كنا أشبه ببيادق في حرب وهمية، كنا في تأهب دائم ولكن لاقتسام الغنائم .
بعضنا كان يقاتل ببسالة ولكن من خلف الصفوف.

Featured post

الغازي

. الغازي
.
يمزق بكارة فجر المدينة النائمة بسيارته العسكرية ، يثبت على متنها قاذف (106) ، يبدو وكأنه يحفظ شوارع المدينة شارعاً شارعاً ، يستطيع أن يقود سيارته العسكرية وهو مغمض العينين ولا يصطدم بجدار أو مبنى ، كل ليلة يستعرض مهارته في معرفة كل شبر على الملأ النائم المندس تحت الأغطية وراء جدران البيوت ، أو أمام الأعين القلقة المتوترة الخائفة خلف زجاج النوافذ المغلقة بإحكام ، هو الزائر الليلي غير المرحب به في المكان الأليف ، ذلك المكان الذي بات يرفع راية غير رايته ، وينشد نشيداً لم يتعود على سماعه من قبل ، لم يتعود على رفض المكان له ، لم يتعود على نبذ الطرقات لخطواته فجاء متسللاً مع الفجر إلى مكانٍ لم يعد مكانه ، جاء خلسة ودخل عبر طرق صحراوية بعيدة إلى المدينة ثم عرج على المخبز الوحيد ، ليملأ سيارته بالخبز الطازج الذي يحمله للجنود المرابطين معه في الضفة الأخرى من الجبهات ، يقتحم وكر أخوة لم يعودوا أخوة كما كانوا ، يقتحم عرين أعدائه الذين كانوا له أحباباً ، كانوا خلاناً وندماء ، يقتحم أزقته التي كانت له أزقة وشوارعه التي ما عادت تعني له شوارعاً ، يأتي ، يتسمر أمام بيوت لم تعد تستقبله كما كانت تفعل من قبل ، ينهمك في رصد الملامح التي بدت باهتة كأنها خلعتْ زينتها ، كأن المكان ناء وأغترب بعيداً عنه ، أراد أن ينتقم من هذه الباهتة التي تخلت عن زينتها و أصبحتْ محظورة عليه وممنوع عليه لمسها ، حراماً عليه دخولها أو الاقتراب من بوابتها الأمامية فشق طرقاً غير شرعية عبر الصحراء ودخل إليها من الخلف ، تجاسر عليها ساعة الفجر ، أخذ يصب جام غضبه ورفضه وحنقه وعدم تصديقه لما حدث ، كان يرفض تبدل أحوال المكان بشدة ، كان يأخذ خبزه ويرمي بقذائفه ، يزلزل المكان تحت قدميه كل ليلة ويرحل .
كان جندياً شجاعاً جداً من جنودهم لكننا قبضنا عليه ، عندها ذهبوا جنودنا به إلى جهة مجهولة ، أحس بأنه أخرج المكان الأليف من أعماقه .
.
جزء من رواية.
خيرية فتحي عبد الجليل

Featured post

نهاية

فوضى الكحل المحببة تحيط بالمكان المهيب، تخط الوسوم والإشارات المبهمة، الآثار الداكنة تعلق ببعض أهداب الرمش، تختفي في أضيق مسافة بين الرمش المضطرب والجفن المرتعش، تحرس سواد العين وتتعثر بالحلم في ليل الشتاء الطويل، لم أتعود على غلق حلم خلفه يتعثر عطره وأنفاسه والدمع والعنبر ورائحة غربته ، ويعلق في أعطافه الحنين، أطبقت جفوني وتركت له نافذة الحلم مواربة .
أطبقت جفوني وشددت على طيفه المتسرب ورائحة عطره وجبروت صوته الرخيم ذو النبرة الجنوبية العريقة المختلطة بنبرة أهل طرابلس، الزاخرة بمفردات بدو برقة، أطبقت جفوني ثم فتحتها على نافذة واسعة وكبيرة حيث تهب نسائم عليلة خلال شتاء ” ديسمبري ” رائق في مدينتي البيضاء الجميلة .
تطل نافذتي على حديقة بيتنا الكبيرة، يواجهني السور المرتفع الذي يحيط بمنزلنا ويواجهني طيفه يرتسم كظل رجل ليلي باهر الحضور، يشرق قبل إطلالة أول خيط باهت من ضوء الصباح و يرسل إشاراته الحبيبة في الظلام تحت جنح نور خافت ترسله ذبالة شمعة عاشقة لحظة غياب كهرباء المدينة .
يتقدم ظل الرجل من نافذتي، يقترب فتتراجع خطواتي إلى الخلف، يتقدم أكثر وأكثر وأرى يداً تخط شيئاً عليها، تكتب بسبابة مرتعشة، ثم يختفي كل شيء، يتلاشى الظل واليد وتختفي السبابة لكن عبارة الحب المكتوبة بالبخار المتكاثف على زجاج النافذة تظل ساطعة في ذاكرتي، كنت أدرك أن تلك العبارة الشاهقة المزخرفة بالمشاعر الفياضة تضج في حقيقتها بالخطورة والغموض، تبعتني خطى الظل إلى سريري، اندسست ارتجف تحت الأغطية وظل طيف الرجل مرسوماً على الجدار أمامي كحارسٍ أمين لا يتحرك إلا لكي يتفقد أشيائي الثمينة، شعرت به يندس تحت الأغطية ويتجسس على أغلى ممتلكاتي ويطمئن إلى غنيمته الغالية حتى الصباح، وأنا ارتجف خوفاً وبرداً وحباً .
في الصباح غمغم الطيف العاشق :

  • انطلاقة سهم تساوي هدف .
    لا أعتقد أن الذاكرة تخطئ، ولا أصدق أن للقلب عثرة ولا يكمن بحال من الأحوال أن يأثم الحلم عندما يكون المبتغى فائق الجمال مثله، لا يمكن أن يكون حضور ذلك الطيف زلة من زلات الروح، أو هلوسة من هلوسات الفكر المشوش بمتطلبات صعبة المنال .
    أعلن صباحاً على الملأ، أعلن بصوت مغموس ببحة الاشتياق والهوس والجنون، مغمور في ليلة كاملة من البكاء، البكاء من شدة الحضور و التبدّي والوضوح والسفور لدرجة النقاء، أعلن من شدة جمال الحب وقوة لحظات الانصهار الرائعة .
    أعلن أن هذا الطيف حقيقة وواقع وصدق وأن حضوره منزه عن الخطأ والزور والبهتان .
    أعلن أنني من شدة واقعيته طلبتُ إليه أن يزول، أن يأفل، يختفي، يحتجب، يغيب
    طلبتُ إليه أن يمتثل لطبيعتي الطينية، أن يذعن لمرارة الواقع، فزمنه يفوق زمني بملايين السنين، طيفه لا يخضع لأبعادنا المكانية، من المنصف أن يعود من حيثُ أتى، من العدل أن ننفصل، طلبتُ إليه أن نفترق .
    كانت طبيعتي البشرية الشكاكة تناقض طبيعته، أدميتي آلمته، أنانيتي المفرطة صدمته، غيرتي، ثقلي ناقض خفته، جسدي لم يحتمل وطأة جسده الأثيري الشفاف الخارق لمنافذي، الثاقب لفكري وخواطري، جسدي مشدود إلى الأرض وطيفه سابح في السماء، القيود المفروضة على تكويني الطيني تخشى طبيعته الهوائية الحرة الطليقة .
    تمتم وهو يبتعد ..
  • تشبثوا بثقافتكم الملوثة ، أحذروا لعنات عوالمنا.
    رفضته بشدة فودعني بتحية خاصة ألمتني وانطبعتْ في نخاع العظم، ثم رحل، كان طيفاً لا يتراءى إلا تحت ضوء الشموع الخافت، اختفى، أبتلعه ضوء النهار الفاجر .

الغياب

تسفيها للموت، نكاية في الغياب ورغم أنف المسافات وغصبا عن المستحيل ….. ستبقى على رأس قائمة لن يتمكن منها سلطان النسيان اللعين، وسيظل حلم تقديم السلام إليك قائما.

وجع

https://www.facebook.com/100018548596257/posts/926511817977096/https://www.facebook.com/100018548596257/posts/926511817977096/

هذا الوطن

قصي هذا الوطن ، ناء وأنا الجالسة قربه المتغلغلة فيه عاجزة عن الفرح ، والمنسابة في تربته كمطر ، قصي وأنا المسافرة توقاً إليه على أجنحة القصائد والكلمات ، موسومة بهوس البوح المغلق في زمن الصمت والفجيعة والخذلان ، يئن الوطن تحت أناملي ، منبسطاً أمامي على الورقة ، يئن صامداً ، حزيناً ، مرهقاً ، ملوثاً بدماء الأبناء ، مكبلاً بالغرباء ، محاطاً بالكآبة وأنا يتيمة الوطن النائحة ، أصرخ ثكلى وأرملة ومفجوعة أعفر وجه الورقة بالحنين وبالبكاء وبالفقد .

ذاكرة

_لا أريد أن أبيح ذاكرتي لك دفعة واحدة ، ولا أن أفتح لك كل خزائن الروح و لا أريد قراءة محطات الانتظار الممتدة عبر العمر ولا أن أفيض بالكلام عن حضورك الذي بات يملأ مكاني وزماني ويرمي بي عند حدود وطن كان عامراً بالياسمين والشيح والعنبر ، هذا الحضور الذي يملآ قلبي طمأنينة عن مدننا ، أحدثك عن بساطة البدويَّ فينا ، عن تعثر طفلتين في الطريق خلف جدتهما، الأولى تتعثر ،تسقط ، تمسح دمعتها ، تمسح التراب عن ثيابها وجرح ركبتها، الأخرى تجرها تحثها لتلتحق بالجدة التي تحمل حقيبتهما المدرسية وتحمل نظرة حذرة، توجهها لكل غريب قادم إلى المدينة “البيضاء” الصغيرة ، الطفلة الأولى هي أنا ، عن مدرستي وقلم الرصاص المميز الذي أهداه إلى والدي بعد خروجه من السجن ، عن فطوري البسيط المختلط برائحة حبر الكتب المدرسية الجديدة ، عن المواد البسيطة التي نصنع منها ” عرائسنا القماشية “، عن المثلجات الرخيصة التي تبيعها جارتنا ،عن الفرق بين شارعنا الحبيب والشارع الخلفي حيث تسكن العفاريت ، عن حكايات جدتي عندما تنقطع الكهرباء ، عن رغيف ” التنور” عن ميراثها العريق من أهازيج الصحراء و ” غناوي العلم ” ، عن وشمها الأخضر المرسوم بدقة المتعانق مع عروق اليد النافرة ، عن رائحة الحنان والحناء في كفها وهي تتحسس بها حرارة جسدي الهزيل ، وأصابعها المخضبة التي ترتعش حباً عندما تتخلل خصلات شعري الفاحم وأنا أتدثر تحت لحافها نائمة ، شذى حبات عقد العنبر التي تتزين به و حبيبات الريحان المختلطة بالمسك التي تدسها بين طيات ملابسها ، عن ، محفظتها حيث النقود وحبات الحلوى ، رعشة قلبها وهو يرتجف دفئاً ليغير اتجاه النبض والدمع أمام نغمة ” مالوف طرابلسية ” عن البهاء الكاسر معها ، عن أنفاسها اللافحة في حضرة بوادينا ، أن أشرح لك ما يفعله هواء ” المرج ” ونسمات الجبل بكيانها و لا أريد أن أختلي بك في عرس شعبي نتبادل الغناء لنقتحم به مواقيت الوطن بفرح لذيذ وعربدة تثير الأشجان تحت سماء ” برقة ” ومطرها الحميم يغمر جسدينا ويفيض بالبهجة ، كم أتمنى أن أحدثك عن فزان ، والواحات ، عن تذوق لذة الشاي في ” الباكور ” ، عن كل مدينة في الوطن ، عن كل قرية ملأتْ سماء الروح بالقناديل والفرح والأغاني لكني كنت مجبرة على الانسحاب والاستدارة ، مجبرة على الرجوع ، على النكوص ، فمغادرتك بشكل مباغت أوقف فيض الكلام في حلقي ، غادرتَ وانسحبتَ ، رضيتَ بالغربة ما إن هزم الغرباء ربيع الوطن الكاذب الذي جاء كاحتمال سقط سهواً من خلف ردهات التاريخ الموحشة حتى تركتني و رحلت ظلماً.

قصيدة

وعلى شرفة الليل سهرتْ قصيدة … أصابها الأرق .. بكتْ .. فأستيقظ الجميع .

لعل في سكون الليل رسالة

لعل في سكون الليل رسالة
.
.

ذات خوف تذكرته ، إثر تسرب ذلك اللحن العتيق وتلك الأغنية إلى مسامعي ، خوف من النوع الذي يشل كل كيانك مرة واحدة ، أعود فأقول تذكرته بتواطؤ من ذلك النغم فرحلت مع الذكرى قرابة عشرين عام ، كنت أقف عند المساء ، البعد الشاسع بيننا لا يتعدى سنتيمترات على أكثر تقدير ، قلبي يرتجف بشدة ، يتقافز الكلام على شفتي ثم يعود يختفي فلا أنبس ببنت شفة ، يتقافز الفرح كذلك ثم يعود من حيث أتى ، الإبتسامات تتطاير أمام ملامحي كالفراشات بسبب وبدون سبب ، ترتسم بسرعة ثم تتلاشى ، استرق النظر والسمع واللمس وكل الحواس كانت على أهبة إستعداد ، لكنه بعيد ، هذه السنتيمترات القليلة تساوي ألف ألف ميل بوحدة تقدير القلب .
يرتفع اللحن ، تمتد يده لتخفض صوت المغني قليلاً وأجزع ، تزداد ضربات القلب وأتمتم في ذات نفسي :
لو يرتفع الصوت قليلاً حتى لا يفتضح أمر البراكين الهائجة داخل نفسي ، فجأة أقترب ليغير النغم ، ماكان يجب أن يختزل هذه المسافة بيننا إلى هذا الحد من العذاب !!
كان النغم الجديد لفيروز ” سكن الليل ” ، ترك الصوت الملائكي ينساب ، استأذن في المغادرة وتركني أصارع براكيني مع فيروز ومضى .
لعل في سكون الليل رسالة .

أعلى ↑

%d مدونون معجبون بهذه: